ربما يكون غريبا على بعض الناس أن يعلم فجأة .. أنه عاش عمره كاملا مصدقا لضلالات مقدسة باسم الدين ، وذنبه أنه أسلم فهمه لغيره ممن يطلقون عليهم علماء أو كتب صفراء ، ولم يستخدم عقله ولم يكلف خاطره أن يتفكر في آيات الكتب السماوية كالقرآن العظيم ، أو لم يحاول فهمه وهو يقرأه أو يسمعه أكثر من صحابة رسول الله ، رغم أنه دائم الإرهاق لفكره وخيالاته وحساباته في البحث عن مزيد من الرزق ، رغم أنه يعلم أن الرزق مكفول ومقدر ، ولن ينال منه إلا ما كتبه الله له وفي موعده المكتوب سلفا ومن قبل مولده .
أول المعضلات التي تستوجب استخدام العقل لمعرفة حقيقتها هي الغاية من خلق الله للإنسان ، رغم أننا جميعا تعلمنا وحفظنا أن الله خلقنا جميعا لنعبده وتلك حقيقة مطلقة لا جدال فيها ، ولكن الأهم هو كيف نعبده ، بمعنى أبسط كيف نؤدي مهمة العبودية التي خلقنا الله من أجلها ، والخطير أن العلماء الأقدمون علمونا أن العبادات هي نفسها التي سماها الله في القرآن فقط بالفروض والمناسك والشعائر ، فلماذا لم يسمها الله “عبادات” ، ومن سماها بالعبادات ولماذا ؟
وما هي العبادات الحقيقية .
العبادة .. هي أداء مهمة العبودية التي خلقنا الله من أجلها والتي استحق عليها الإنسان أن تسجد له الملائكة وتدعو له وتستغفر له وتسخر لحفظه ، والملائكة هم أفضل وأقرب خلق الله إلى الله ، فالمهمة التي خلق الله من أجلها “بني آدم” هي مهمة جليلة وعظيمة ، ومؤكد هي ليست أداء مناسك وشعائر للتقرب من الله ، لأن الله ذكرها قبل خلقه لأدم بقوله تعالى .. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ..}البقرة30 ،
والخليفة هو من يستخلفه صاحب الأمر لينوب عنه في إعمار مكان في زمن محدد ، وكذلك ذكر الله بها بني آدم بعد خلقهم واستقرارهم على اللأرض بقوله تعالى .. {.. هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ .. }هود61 ،
واستعمركم بمعنى كلفكم بمهمة إعمار الأرض كخلفاء لله عليها كما أوضح سبحانه من قبل ، وتلك هي مهمة العبودية والتي أدائها تسمى بالعبادة ، وبالتالي فكل عمل أو قول يصلح شأن الدنيا وما فيها هو إعمار للأرض فهو من العبادات .
وبالتالي لو عدنا لمتابعة آيات الصلاة والزكاة والصيام والحج وذكر الله ، لوجدنا أنها فقط كما سماها سبحانه ليست إلا فروضا ألزم الخالق بها خلقه ، فقط .. ليستقيموا في أداء المهمة ، لأن ابن آدم ضعيف وهلوع جزوع وظلوم جهول ، وخالقه يعلم أنه لن يستقيم إلا لو أدى الفروض والمناسك ، وسبحانه وضح له هذا في مواضع عديدة في قرآنه العظيم ، مثل قوله تعالى .. {.. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }العنكبوت45 ،
وأكد على ذلك رسوله بقوله .. { من لم تنهاه صلاته فلا صلاة له } ففائدة الصلاة وذكر الله أنهما يمنعان الإنسان عن الفواحش والمنكرات ، ثم أوضح فائدة الصيام والزكاة بقوله تعالى .. { لعلكم تتقون } ، وأوضح فائدة الحج بقوله تعالى .. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }الحج32 ، فالحج الخالص المبرور يؤكد تقوى القلوب التي يستقر فيها الإيمان .
وبالتالي .. فتارك الفروض والمناسك متعمدا خاصة من يقول أن بينه وبين الله عمار ولكنه لن يصلي ، هو في حقيقته “كافر بقيومية الله عليه” مثل إبليس الذي رأى أن يعلم عن نفسه أكثر من خالقه سبحانه وتعالى ، وكذلك المهمل في إعمار الأرض متعمدا هو كافر بقيومية الله عليه ، لأنه يهمل المهمة التي خلقه الله من أجلها ومدعيا أنه خلق من أجل المناسك والشعائر ،
وأما المفسد في الأرض فهو أشد عداوة لله من تارك الصلاة ومهمل الإعمار للأرض ، لأن الله خلق الإنسان ليعمرها ، فإذا أفسد فيها فقد أعلن الحرب على الله ، ولذلك أعد له عقابين مريرين في الدنيا أولهم العذاب والقتل وثايهما الخزي في الدنيا ، بل وأضاف له عذابا عظيما في الآخرة ، وهو ما فصله سبحانه وتعالى في قوله .. {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة33 ،
وهو عقاب مزدوج لم يقرره الله لمرتكب أي ذنب مهما كان من الكبائر في الدنيا سوى لكبرى الكبائر وهي الإفساد في الأرض بواسطة من خلقه الله ليعمرها .
ولو تأملنا قليلا في ناموس الله في خلقه لاكتشفنا قمة الإعجاز في عدل الله بين خلقه ، حيث جعل سبحانه مهمة الإعمار وهي (العبادات الحقيقية) متاحة وميسرة بل ومحببة لكل النفوس البشرية مؤمنها ومشركها وكافرها وملحدها بمختلف جنسياتهم وألوانهم ، فكل البشر تحب التزاوج والإنجاب أيا كان شكله وتراتيبه ، وهو أبسط مهام الإعمار للأرض وأخطرها في نفس الوقت ، لأنها يستتبعها إعمار الدنيا للأجيال الجديدة ، وبالتالي يتم تنفيذ مهمة العبودية التي خلقنا الله من أجلها بمقتضيات الحياة ومتطلباتها ومتوافقة مع شهوات ورغبات النفوس البشرية ، ولا يبقى لهذا المخلوق المستخلف إلا أن يؤمن أن للكون إلها واحدا سوف يحاسبه بعد موته ، فمن آمن في أي مرحلة من حياته بذلك فهو كما يقول عنه ربه دوما (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
ومن يؤمن أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الأعظم ولا إله سواه ، وأنه سبحانه محاسبه بعد موته ، فيتحول الهدف من إعماره للأرض من هدف شخصي تقليدي مثل غيره حوله إلى هدف أسمى وأرقى لنيل رضا الله عنه ، فهو يتحول من مرتبة العبودية إلى مرتبة العُبًاد ، لأن العابد بإرادته يؤدي مهمة العبودية مختارا خاضعا لله تعالى ، بخلاف العبد الذي يؤدي المهمة مسخرا لأدائها حتى وهو لا يدري ، وذلك هو الفارق الكبير بين العُبًاد (بتشديد الدال) والعبيد ، فالعُبًاد يقول فيهم خالقهم العظيم ( والله رؤوف بالعباد) ، ويصفهم في قوله تعالى .. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }الفرقان63 ،
ولو ركزنا وأعملنا الفكر والتأمل في آيات الله لاكتشفنا الفارق بين ثلاثة فئات في الدنيا هم العبيد والعباد والعُبًاد ، وهو فارق في درجات الإيمان ارتقاءً من عبيد تنفذ مهامها التي خلقت من أجلها وهي لا تدري وهم من يقول فيهم سبحانه {.. لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179،
إلى مرتبة أرقى قليلا وهم العباد الذين يعلمون ولكنهم يخطئون ويقعون في الذنوب وقد يعاندون ، وربما انتهت حياتهم كالعبيد رغم علمهم وفرصتهم للارتقاء ، وهم ما يتحسر الله عليهم سبحانه في قوله تعالى .. {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }يس30 ،
وبين أخيرا (العُبًاد) الذين يؤدون المهمة وهم يعلمون ويؤمنون ويخضعون لله في تراتيب حياتهم حتى يلقوه سبحانه وتعالى .
أخيرا .. نؤكد دوما أن ابن آدم قد خلقه الله وكرمه وفضله على كثير من خلقه ليس لجمال ولا لروعة خلقه ولكن لجلال مهمته كخليفة لله على الأرض ليعمرها ، وتلك هي مهمة العبودية التي خلقه الله من أجلها وهي العبادة الحقيقية ، وهي محل الاختبار والتقدير والمحاسبة ، وقمة الإعجاز في عدل الله بين خلقه أن يجعل هذه المهمة ميسورة ومحببة لكل خلقه بمختلف صورهم وانتماءاتهم ومللهم ، ثم نؤكد دوما أن أرزاق العباد في الدنيا من مال أو جمال أو حسب أو نسب أو علم لا علاقة لها بحب الله لعباده أو بغضه لهم ، ولكنها مقدرات ليحاسب عليها ، فمن أوتي الكثير من شيء فحسابه عليه عسير وطويل ،
كما نؤكد أكثر .. أن الله لم يخلق المسلم مسلما لأنه يحبه ويكره غيره ولن يقبل أحدا لا يؤمن بمحمد كما يدعي المسلمون ، ولا خلق الله المسيحي مسيحيا لأنه من عياله المقبولين وغيرهم من المنبوذين لأنه لا يؤمن بالمسيح مخلصه ، ولكن كل خلقه عبيده وعياله ويحبهم سواسية ، ولكن يحاسبهم على قدر ما آتاهم وهو ما أوضحه الله للمسلمين بقوله تعالى .. {.. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48 ،
وما البشر مطالبون في الدنيا إلا بالتنافس في فعل الخيرات لصلاح الدنيا والبشر حوله ، ولكل نفس خلقها الله حسابها على قدر ما أفهمها الله ورزقها من العلم واليقين والرزق والظروف والابتلاءات في الدنيا ، ولا يحاسب الله نفسا على خطايا غيرها وهو قوله تعالى .. {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }النجم38 ،
ولن يستطيع بشرا أن يقول أعذارا أو فعلت مثل ما فعل الناس والله يقول له .. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38 ،
بل ويقول له .. {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }القيامة14 ، 15 ،
والله يعامل خلقه في الدنيا كما يعاملون بعضهم بعضا ، فمن مكر بغيره مكر به الله والله أسرع مكرا ، ومن أكرم غيره أكرمه الله ورضي عنه وجعل حياته سهلة ميسورة ، فسبحانه بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير .